=============
عابد خزندار
==========
قضية المعنى أقلقتني كثيراً وقضيت زمناً طويلاً في سبر أغوارها، واستهل الحديث بالبنيويين الذين ذهبوا إلى أن المعنى يتحدد من اختلاف الدال والمدلول،
وأن العلاقة بين الاثنين ثابتة كعلاقة وجه الصفحة بخلفها، ثم جاء جريماس واخترع المربع السميوطيقي موضحاً أن المعنى يتحدد من التقاء وتعارض أربعة دوال، فإذا أردنا أن نحدد معنى الحياة فإننا نعارضها ونقابلها في الوقت نفسه بثلاثة دوال هي الموت واللاحياة واللاموت، وظلت هذه المعطيات راسخة إلى أن جاء جاك ديريدا وأثبت أن الاختلاف بين الدال والمدلول ليس راهنا، وإنما مرجأ، مما يعني بالتالي عدم وجود أي معنى، وتأسيساً على هذه المقدمات أسس ما يسمى باستراتيجية التفكيك التي إذا طبقت على أي نص فإنها تنتهي بنقضه وتقويضه، وتفسح المجال لقراءات متعددة لهذا النص كلها خاطئة، أي لا توجد أي قراءة صحيحة،
==========
وان اللغة نفسها مجازية لا يمكن أن تصف الحقيقة، وقد لقيت هذه الاستراتيجية قبولاً واسعاً من لدن معظم الباحثين اللغويين، وساعد على ترسيخها ارهاصات طفت على سطح الأحداث في مطلع القرن العشرين أولها اكتشاف نظرية اينشتياين النسبة في عام 1905، وثانيها افتتاح أول معرض للفن التكعيبي في عام 1907في باريس، النظرية النسبية أثبتت أن كل شيء نسبي وألا وجود لما يسمى بالمطلق، أما الفن التكعيبي فقد أثبت أن الرؤية لأي لوحة تختلف باختلاف المنظور perspective، هل من الأمام أو الخلف أو من الخلف إلى الأمام، ومن فوق إلى تحت، ووفقاً للزمن، وهذا أشرع الباب لتقويض فكرة أن الصورة هي أصدق الوسائل لوصف الواقع، وانها هي أيضاً تتوقف على المنظور، وعلى ثقافة الرائي، ولهذا فإن النص نفسه نسبي ويحتمل عشرات القراءات، كما سبق القول، وإذن فلا حقيقة ولا واقع ولا صدق، وهذه أصبحت اشكالية حاول جيوفري هارتمان الذي كان استاذاً بجامعة ييل أن يحلها بنظريته عن أخلاقيات القراءة مقرراً أننا يجب أن نختار قراءة من القراءات حتى لو كانت خاطئة، وإلا لن يكون هناك دستور أو قانون، وأن Josel K بطل رواية المحاكمة لكافكا سيدان.
وقد حاولت أن أثبت أن هناك حقيقة ظاهرة، وحقيقة أخرى خفية سميتها حقيقة الحقيقة، وذلك في كتابي معنى المعنى وحقيقة الحقيقة، وقد اطمأننت إلى هذا الرأي، وفي نفس الوقت حاولت أن أضع معايير نطمئن بواسطتها لمعنى واحد، وانتهيت - حتى حين - إلى أن المعنى يتحدد من خلال المساق والسياق والتناص منفردين ومجتمعين، لنتأمل هاتين الآيتين من سورة المدثر:
===============
"وثيابك فطهر" (4) "والرجز فاهجر" (5) ولنحاول أن نعرف معنى "الثياب" فيهما، ولكن قبل ذلك لنتعرف أقوال المفسرين:
=========
- يقال ان الثياب كناية عن إصلاح العمل.
- كناية عن تزكية النفس.
======
- وقيل المراد تطهير الأزواج من الكفر والمعاصي لقوله تعالى: "هن لباس لكم" (البقرة 187).
وقيل الكلام على ظاهره، والمراد تطهير الثياب من النجاسات.
ونلاحظ أن هناك عدة قراءات أو عدة تفاسير.
================
لنتأمل أولاً المساق، ما المساق؟ المساق هو التضام أو تركيب الجملة والتقديم والتأخير في كلماتها، وكذلك الحذف، أو ما سماه عبدالقاهر ب "النظم" وهو يتحدث عن التقديم والتأخير في كتابه "دلائل الاعجاز" قائلاً: "وأعلم أن تقديم الشيء على وجهين: تقديم يقال على أنه على نية التأخير، وذلك في كل شيء أقررته مع حكمه الذي كان عليه وفي جنسه الذي كان فيه كخبر المبتدأ إذا قدمته على المبتدأ، والمفعول إذا قدمته على الفاعل، كقولك: "منطلق زيد" و"ضرب عمراً زيد" معلوم ان "منطلق" و"عمراً" لم يخرجا بالتقديم عما كان عليه من كون هذا خبر مبتدأ ومرفوعاً بذلك، وكون ذلك مفعولاً ومنصوباً من أجله، وتقديم (أي هناك تقديم آخر: ع. خ) آخر لا على نية التأخير ولكن على أن تنقل الشيء عن حكم إلى حكم، وتجعله باباً غير بابه، وإعراباً غير إعرابه، وذلك أن تجيء إلى اسمين يحتمل كل واحد منهما أن يكون مبتدأ ويكون الآخر خبراً له، فتقدم تارة هذا على ذاك وأخرى ذاك على هذا، ومثاله ما تصنعه بزيد والمنطلق حيث تقول مرة: زيد المنطلق، وأخرى المنطلق زيد، فأنت في هذا لم تقدم المنطلق على أن يكون متروكاً على حكمه الذي كان عليه مع التأخير فيكون خبر مبتدأ كما كان، بل على أن تنقله عن كونه خبراً إلى كونه مبتدأ، وكذلك لم تؤخر زيداً على أن يكون مبتدأ كما كان بل على أن تخرجه عن كونه مبتدأ إلى كونه خبراً، وأظهر من هذا: قولنا: ضربت زيداً وزيد ضربته، لم تقدم زيداً على أن يكون مفعولاً منصوباً بالفعل كما كان، ولكن على أن ترفعه بالابتداء، وتشغل الفعل بضميره، وتجعله في موضع الخبر له..." (الاشتغال باب من أبواب النحو وهو اشتغال العامل فيما بعده عما قبله ومثاله "وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض..." في هذا المثال تقديم الاسم على الفعل، والاسم نائب فاعل مرفوع بالاشتغال، ويجب علينا ألا نخلط بين الاشتغال والتنازع كما يفعل البعض فالتنازع هو أن يتنازع فعلان على فاعل أو مفعول واحد في نفس الجملة أو في بيت واحد من الشعر، ومن قبيله هذا البيت لامرئ القيس:
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة
كفاني ولم أطلب قليل من المال
هنا لم يعمل فعل: أطلب إذ ليس له مفعول وهو الفعل البعيد، وقد يجري إعمال الفعل القريب أو المجاور كما في هذا البيت لكثير عزة:
قضى كل ذو دين ووفى غريمه
وعزة ممطول معنى غريمها
و"أؤتوني أفرغ عليه قطرا".. ألخ.)
ثم يقول في موضع آخر: "إذا قلت: أجاءك رجل، فأنت تريد أن تسأله، هل كان مجيء أحد من الرجال إليه، وإن قدمت الاسم فقلت: أرجل جاءك؟ فأنت تسأله عن جنس من جاء أرجل هو أو امرأة".
=============
أعود إلى الآيتين وسنجد فيهما تقديماً وتأخيراً، وهو تقديم المفعول به على الفعل، وهذا يعني أن التركيز هنا على المفعول به وليس على الفعل، أي أن الأهمية هنا هي للمفعول به، بالعكس مما لو قلنا طهر ثيابك، هذا وجه والوجه الآخر هو أن ثيابك فطهر جواب على سؤال هو "ما الذي يجب أن تفعله بالثياب"؟ في حين أن "طهر ثيابك" جواب على سؤال: "ما الذي يجب أن تفعله؟" ونأتي إلى التناص: ونجد أن كلمة الثياب وردت في سبعة مواضع في القرآن منها: "ويلبسون ثياباً خضراً من سندس واستبرق" (الكهف: 18) وفي كل هذه المواضع تعني اللباس، كما يذهب إلى ذلك ابن منظور، على انني أحسب أن أقرب التفاسير إلى الحقيقة هو أن الثياب في الآية: "وثيابك فطهر" تعني النفس أو القلب، وعلينا أن نبحث في نصوص أخرى وبالذات في الشعر الجاهلي وردت فيها كلمة الثياب، وسنجد هذين البيتين، الأول لأمرئ القيس:
=================
